
يعود تاريخ 21 مايو كل عام ليكون بمثابة فرصة للجنوبيين للتأمل والتفكير في مسار مليء بالنضالات والتضحيات. ففي مثل هذا اليوم من عام 1994، تم الإعلان عن فك الارتباط عن الجمهورية اليمنية، وهو حدث بارز شكل نقطة تحول في وعي وهوية الشعب الجنوبي.
لكن هذه الذكرى هذا العام ليست مجرد تقليد سياسي أو محطة رمزية، بل تمثل استحقاقًا وطنيًا يتماشى مع واقع جديد، حيث يُعتبر الجنوب اليوم أقرب من أي وقت مضى لتحقيق حلم الدولة المستقلة، ليس كشعار فارغ، بل كمشروع فعلي يمكن تحقيقه يعتمد على أسس مؤسسية قوية.
من التهميش إلى مركز الفعل
على مدار الثلاثين عامًا الماضية، شهد الجنوب تحولًا من موقع المظلومية إلى مكان الفعل والتأثير. لم يعد الحديث عن استعادة الدولة مجرد أمنية، بل أصبح مسارًا يترافق مع بناء حقيقي لمؤسسات سياسية وعسكرية وأمنية تدير واقعًا معقدًا ومتغيرًا.
تجسد تجربة المجلس الانتقالي الجنوبي أبرز ملامح هذا التحول، حيث نجح في صياغة رؤية سياسية ناضجة تربط بين تطلعات الشارع الجنوبي ومقتضيات العمل السياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي. ومع مرور الزمن، أثبت المجلس قدرته على توحيد الخطاب السياسي وتعزيز حضوره على الساحتين الإقليمية والدولية، ككيان يحمل مشروعية تنبع من الشعب وليس من التحالفات المتقلبة.
أمن قوي وجيش وطني
على المستوى الأمني والعسكري، لم يعد الجنوب ضحية للفراغ أو الفوضى. فقد تم تشكيل منظومات أمنية وقوات مسلحة جنوبية لعبت دورًا حيويًا في تثبيت الأمن ومكافحة الجماعات الإرهابية، مما أسهم في الحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي. هذا الأداء الأمني، المستند إلى عقيدة وطنية بحتة، جعل المواطنين ينظرون إلى قواتهم بثقة واحترام، بالمقارنة مع الصورة المهزوزة التي تعكسها المناطق الشمالية التي تخضع لسلطة المليشيات.
مشروع حياة شامل
ما يميز اللحظة الراهنة في الجنوب هو أن الاستقلال لم يعد ينحصر في البعد الجغرافي، بل أصبح مشروع حياة شامل يسعى إلى الكرامة والسيادة والتنمية. وقد تجلى ذلك في تزايد الوعي الشعبي الذي يتجاوز العواطف إلى فهم عميق بأهمية بناء نموذج مؤسسي حديث يعالج إشكاليات الماضي ويواكب تحديات المستقبل.
اليوم، الجنوب ليس مجرد مساحة تبحث عن اعتراف، بل هو كيان سياسي منظم يمتلك أدوات الفعل والتأثير، ويشارك في الحوارات الإقليمية والدولية بروح من المسؤولية.
واقع جديد ودروس مستفادة
الفرق بين 1994 و2025 هو أن الجنوب اليوم لا يطالب بحقوقه من موقع الضعف، بل يفرض وجوده من موقع القوة. هذه القوة التي تستند إلى تضحيات كبيرة وتجارب مؤلمة وصبر طويل، بالإضافة إلى نضج سياسي وأمني نادر في تجارب ما بعد الحروب.
لم يعد الجنوب ينتظر اعترافًا من أحد، بل يسير بخطوات ثابتة نحو انتزاع هذا الاعتراف عبر الإنجازات والبناء، وليس عبر التوسل أو الاستجداء.
في ذكرى 21 مايو هذا العام، يتضح أن الجنوب هو واقع لا يمكن تجاهله، ومشروع لا يمكن إنكاره. ما كان حلمًا في عام 1994، أصبح مسارًا حقيقيًا في عام 2025، وبين هذين الزمنين، قصة نضال لا تزال تُكتب، ولكن هذه المرة، بأدوات الدولة.